1. فكر وثقافة

الفلسفة والدراسات الثقافية بقايا تجربة

 كان لدي حدسا داخليا بأن الدراسات الثقافية بوصفها نسقا معرفيا جديدا في حقل العلوم الإنسانية بما فيها التاريخ والأدب والسياسية والإعلام واللغة والجغرافيا هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى أي علم آخر إذ تتموضع على تخوم العلوم الإنسانية والاجتماعية كلها؛ لا داخلها ولا خارجها على تخومها من منظور تكاملية المعرفة الإنسانية فهي معنية بالبحث في تنويعة واسعة من المشكلات الحيوية البينية منها:

سوسيولوجيا الفنون والآداب، وسوسيولوحيا العلم والتقنية، والدراسات النسوية، والهجرة والهوية، والشباب وثورة الاتصالات والمعلومات، والعنف والتطرف والإرهاب، وسوسولوجيا اللغة والانثربولوجيا الثقافية، وعلاقات الهيمنة، والتفاعلية الرمزية، والممارسات الحياتية للفاعلين الاجتماعين في مختلف مجالات الحياة وتصوراتهم الكلية عن العالم وعن الحياة والموت والتاريخ والمجتمع وذواتهم والآخرين، وأشياء كثيرة أخرى تقع في صلب الثقافة بوصفها “ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع” بحسب “باستيد”

إذ تنطوي الثقافة بهذا المعنى على ثلاثة عناصر أساسية هي:

  1.  التحيزات الثقافية: التي تشتمل على القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس.
  2.  العلاقات الاجتماعية: التي تشمل العلاقات الشخصية والرسمية التي تربط الناس بعضهم ببعض.
  3. أنماط وأساليب الحياة: وهو الناتج الكلي المركب من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية.

ذاك الحدس الداخلي هو الذي حفزني لاقتراح إعادة تأهيل وتنمية قسمنا ؛قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عدن هيكليا ومنهجيا بحيث يكون قسما للفلسفة والدراسات الثقافية.

كنت حينها رئيسا دوريا للقسم عام ٢٠٠٧م قدمت المقترح مكتوبا في مجلس القسم وتم مناقشته باستفاضة من الزملاء والزميلات اعضاء القسم وتم إقراره ورفعه إلى مجلس الكلية الذي وافق عليه حينها وعملنا برشور بالاسم الجديد وضاع كل شيء في مهب الرياح التي لم تكن مؤاتية للإصلاح الأكاديمي اصلا.

تذكرت ذلك وأنا بصدد إنجاز مقالة عن الدراسات الثقافية لنشره في مجلة دولية محترمة. إذ اكتشفت أن الكثير من الموضوعات التي شغلتني خلال السنوات الماضية ومنها؛ سوسيولوجيا العلوم الإنسانية ودراسات المرأة والمجتمع المدني والإعلام الجديد والهجرة والهوية وعلاقات الهيمنة والشباب والقيم في عالم متغير والتاريخ الجديد ومناهجه والأدب والفن ووظائفه معظمها يتمني إلى حقل الدراسات الثقافية والنقد الثقافي.

وتؤكد نظرية الثقافة والدراسات الثقافية أن الأدب والفن والكتابة ليس مجرد قصة أو قصيدة أو رواية أو مقالة فكرية أو نقدية نقرأها للمتعة والتسلية ثم نتركها وننساها، بل هي روح الثقافة وسداها والأدباء والكُتَّاب هم ألق المدنية وذاكرتها، والثقافة بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا تعد الرهان الاستراتيجي لكل تنمية سياسية اجتماعية ممكنة.

فضلاً عن كونها مصدراً حيوياً  للإبداع والابتكار وتهذيب وتخصيب القيم الأخلاقية والجمالية الإنسانية وتنمية الذوق العامة، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف  والتسامح ورحابة الأفق والأنوار والتنوير والشعور بالهوية والانتماء  .. وغير ذلك من وظائف الثقافة الحيوية وهكذا كانت ومابرحت وظيفة الثقافة في التنمية  المستدامة. وإذا “كانت السياسة في كل الأزمان  قد جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة واحدة فاقدي العقل”  كما قال دوبرية في كتابه المهم (نقد العقل السياسي) فإن الفضل الأول يعود للثقافة بوصفها القوة الإبداعية في التاريخ تشتمل على العلم والفن والأدب إذ هي من إعادت لهم عقولهم وجعلتهم متحضرين، بعد صراع مرير عبر التاريخ بين السيف والقلم والعقل والجسد فانتصر العقل والقلم أخيرا كما تروي قصة الحضارة الحديثة والمعاصرة التي كان للثقافة الدور الرئيس في تأسيس مشروعها المنتصر اليوم في العالم أجمع !

وهكذا باتت العلاقة بين السياسة والثقافة شديدة التكامل والتفاعل والتأثير والتأثر فإذا كانت وظيفة السياسة هي تدبير الشأن العام فإن وظيفة الثقافة هي نقل هذا التدبير من القوة الى الإمكان فلا سياسية ممكنة وقابلة للاستقرار والدوام بدون تنمية ثقافية عقلانية مستدامة للإنسان الذي لا يمكن له أن يكون إنساناً بدون التربية والتعليم والثقافة. ولازالت الحاجة إلى فتح أقسام أكاديمية للدراسات الثقافية في الجامعات العربية تزداد إلحاحا في زمننا هذا.

هل يعجبك مقالات قاسم المحبشي؟ تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي!
لا تعليقات
تعليقات على: الفلسفة والدراسات الثقافية بقايا تجربة

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    إرفاق الصور - يتم دعم PNG، JPG، JPEG وGIF فقط.