إذا كنا نقرأ في نفوس الآخرين دوافعنا وفهمنا نحن، فكيف لنا أن نفهم دوافعهم وفهمهم هم؟ (مايكن كاريدرس)
يتواصل البشر فيما بينهم مستخدمين حزمة من اللغات المتعددة التي تتباين إلى حد كبير فيما تنقله من معلومات، ولطالما تساءل العلماء فيما إذا كانت اللغات المختلفة تعكس قدرات معرفية مختلفة، في السنوات الماضية برزت دلائل مبنية على التجربة والاختبار تشير إلى أن تأثير اللغة الأم فعلا قوية في الطريقة التي يفكر فيها الإنسان في شتى أمور العالم بما في ذلك المكان والزمن، وهناك تلميحات تشير إليها النتائج البحثية الأخيرة أيضاً مفادها أن اللغة جزء لا يتجزأ من العديد من سمات الفكر التي لم يدركها العلماء من قبل.
لماذا لم تعد لغتنا تعبيراً عن وجودنا الأصيل؟
وإذا أدركنا أن اللغة هي الوجود الذي يتكلم ويفكر ويعلن عن وجوده من خلالنا وبنا، فان التفكير يحمل إلى اللغة في نطقها كلمة الكينونة اللامنطوقة فهل مازالت لغتنا المحكية والمكتوبة والمفكر بها تعبر عن حقيقة وجودنا وبيئتنا وسلوكنا وحياتنا الحاضرة المباشرة، أم أن الكلمات انفصلت عن الأشياء منذ وقت طويل، وأصبحت أشبه بالقبعات المعلقة بالهواء بلا رؤوس.
إن المتأمل في واقع حياتنا الثقافية العربية اليوم سوف يلاحظ بغير عناء ذلك الانفصال العقيم بين الدال والمدلول بين الكلمات والأشياء بين اللغة والوجود، فالكلمة لم تعد تعني المعنى الذي كانت تجسده ذات يوم، حينما بدأت لحماً ودما حياًً كما بدأت العبارات أيضاً (لحماً حياً) الحيوان والأعضاء والجسد والطبيعة والعلاقات والآلهة انبثقت من الواقع الحي لحياة الإنسان، ولم تكن هذه الرموز إلا تمثيلاً مباشراً صادقاً وحيَّاً للأشياء التي تدل عليها؛ إذ أن كثيراً من الكلمات العربية ارتبطت بالحيوان والبيئة التي عاش فيها العربي في زمن ميلادها وكل كلمة أو مفهوم له ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة، وسياق نمو وتجربة وخبرة ممارسة، وعلاقات قوة، ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق تلقي .. الخ.
ومادمنا نستعمل كلمات مختلفة بمعاني مختلفة فمن المهم أن نعّرف المصطلحات التي نستعملها ونحدد الدلالات التي نعنيها بها إذ أن كل تعريف تحديد، وكل تحديد سلب. كما للبشر تاريخ. إن كلمة “المتن” على سبيل المثال، بدأت بمعنى “ظهر الحيوان” بينما قد تعني الآن “أصول اللغة ومفرداتها” أو متن الكتاب، أي محتواه، وكلمة “الابتكار” مشتقة من البكر أول مولود الولادة أي حفظ لنوع، وبالبكارة عزوبة المرأة والباكر أول النهار، والابتكار الإبداع والاختراع، وكلمة “الحب” حينما ينطق بها تعني وجود رابطة حميمة بين كائنين وتعني الألفة والاتحاد والعيش معاً، وأنا أحبك كما يقول هيدجر ليس مجرد تعبير عن ذاتي.. بل هو الوجود يعلن ذاته ويتجاوزها إلى الآخر إنها تعني أن الفرد الموجود يتجاوز انغلاقه طلباً للآخر ويؤسس الحب في الخارج خارج الذات المنعزلة وأنا أحبك هي شمولية الوجود الذي لا يعي نفسه إلا شاملاً إنها الجزئي ظاهرياً والكلي جوهرياً.
هذا يعني أن الكلمة ليست تعبيراً عن ذاتها، بل هي حاملاً لمحمول، هي صوت الجسد، هي رمز لشيء موجود، ولكنها ليست الشيء ذاته أبداً بل كما يقول “موريس بلانشو”: أن الكلمة في اللغات الأصيلة ليست تعبيراً عن شيء بل هي غياب هذا الشيء.
إن الكلمة تخفي الأشياء وتفرض علينا إحساساً بغياب شامل بل بغيابها هي ذاتها، وإذا أمعنا النظر في مملكة الرموز هذه أي اللغة سنكتشف أشياء مثيرة للدهشة بل أن فيها من السحر والإثارة ما يأسر اللب ويلهب الوجدان، فما معنى الكلمات التي نقولها ونعيدها كل لحظة، ما أصل الأسماء وما معناها، من أين جاءت هذه الرموز والإشارات التي نستدل بها عن الأشياء وهل مازالت تعبر عنها بالفعل أم لا؟ أسئلة وقلق كبير ومثير بدأ منذ عقود قليلة يستعر في فضاء الفكر والثقافة الأوربية المعاصرة حول اللغة وأهميتها إذ تنبه عدد كبير من الفلاسفة والمفكرون المعاصرون إلى ما تنطوي عليه هذه البنية الثقافية الشاملة من عناصر وأنساق ودلالات لم تكشف بعد رغم أهميتها الحاسمة وفائدتها العميمة لبناء الإنسان، إذ ظهرت في السنوات الأخيرة فلسفات كاملة وضعت اللغة في صلب اهتمامها منها البنيوية، والأنتروبولوجيا الثقافية، الجنوسية اللغوية في هذا السياق تم بحث الملابسات العميقة للتقابل بين الثقافة الشفاهية والكتابية اذ قام علماء الإنسان وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء اللغة بأبحاث ميدانية من مجتمعات الشفاهية الثقافة وخرجوا بنتائج مذهلة وعلى درجة كبيرة من الأهمية حول نمط العلاقة بين الثقافة الشفاهية والكتابية وخصائص كل منهما.
لكل فرد منا تجارب مختلفة وقوى ذاكرة مختلفة واستجابات مختلفة، وعادات مختلفة، وهذا يعود الى الخصائص الفردية والنفسية المتمايزة بين الناس، فكل انسان لديه اشياء يحبها أو يكرهها، تسره أو تحزنه، أي اشياء تؤثر فيه دون غيرها، وهذا يعود الى اختلاف أنماط الحياة الثقافية التي نشأ فيها الفرد، الأسرة، المكان، الجامعة المحلية، العلاقات بين الافراد واللهجة، وسائل الحصول على ضروريات الحياة من الخبز والماء والمسكن والملبس والزواج والتعليم، الطفولة والتربية والقيم والرموز ولكل الاشياء الحميمة التي يواجها كل فرد في حياتها الخاصة والعامة، بما في ذلك الأسرار والعقد والأحلام والآمال وطرق التعبير عن الذات، جميع هذا الاشياء تشكل ما يسمى ب الحياة الثقافية للإنسان.
وإذا كان الإنسان هو الكائن الثقافي الوحيد، فهذا لا يعني بأن الثقافة واحدة لدى جميع الناس، بل هناك تنوع لا حدود له يثري حياة الناس ويميزها بعضها عن البعض، الى الحد الذي يمكن القول: أن لكل فرد سمات ثقافية خاصة، والإنسان بطبيعته السوية لديه استعداد وقابلية هائلة للتنوع والتغير في حركة حية ديناميكية وهذا هو ما أفضى إلى تباين أشكال الحياة وأشكال فهم الحياة وصور التعبير عن الحياة وسبل الأخذ بالحياة والتعامل معها.
ومع إيماننا بالتعدد والتنوع نؤمن أيضا بان هناك ما يجمع بين الناس، إنها وحدة مع الاختلاف، والتباين في إطار الوحدة، وهذه الفعالية والتفاعلية التي تنتج المجتمع القادر على التطور والازدهار المستمر.
إن التنوع والتغير هما في ذاتهما شرطان وجوديان أساسيان من شروط وجود الحياة الاجتماعية المضطردة بانتظام؛ في حين أن التماس الوحدة والتجانس والتماثل والتشابة هو التماس للموت التماس لخاصية التجحر والجمود. ولما كانت اللغة، الكلام، بكل ما تعنيه من أبعاد ودلالات ثقافية واسعة هي جوهر الثقافة ومعناها العام ذلك لأن المحصلة النهائية لـ”الثقافة” ثقافتك وثقافتي وثقافة كل إنسان هي مجموع اشكال ردود الافعال والتفاعل التي توجد في نواتنا، والتي نسميها “القدرة على قراءة اللغة، فإننا سنولي عنايتنا لتحليل العلاقة التي يقيمها الناس مع “الكلمة” وما تثيره من انفعالات مختلفة فيهم، فالكلمة الواحدة في لغة من اللغات تثير استجابات متنوعة ومتباينة عند الناس حتى وأن كانوا ينتمون الى اللغة ذاتها فقد نتفق على ما يعنيه لفظ “بحر” من الناحية النحوية ولكننا نختلف في معناها الدلالي، وربما اختلفتٌ وإياك في التداعيات التي يثيرها هذا اللفظ في ذاتي، فقد يثير لديك مشاعر الرهبة والخوف بسبب خبرة سابقة لك معه، أما أنا فالبحر يحفر عندي مشاعر الفرح والهدوء والجمال.. الخ.
وجميع الكلمات التي نستخدمها في حياتنا اليومية تنطوي على هذة الخاصية التعددية في إثارة الاستجابات المتنوعة عند أناس ينتمون الى مجتمع واحد، ولعل الخليفة الراشدي علي بن ابي طالب-كرم الله وجهه- حينما بعث أبو موسى الأشعري للتفاوض مع الخوارج بعد المعركة “صفين” الشهيرة، كان يدرك ذلك الفخ اللغوي، لهذا أوصى رسوله بالوصية التالية:”لا تخاطبهم بما جاء في القرآن ، إنما هو كلام مكتوب بين دفتين ينطق بما ينطق به “الرجال”ولما كانت الكلمات تختلف في معانيها هذا القدر من الاختلاف فلا يستطع أحد أن يحدد التفسير الصحيح والمعنى الجامع المانع للكلمة، إلا في سياق التفاعل الاجتماعي والحوار الحي والمباشر، حيث لا يعرف احد ما يجب ان تكون عليه تلك الكلمة قبل أن نلتقي بها ونواجهها ونجربها ونعيدها مرات ومرات حتى نفهم معناها.
إن كلمة “فأس” التي كانت ترمز إلى الأداة الرئيسية لشعوب العصر الجحري القديمة، من الموكد أنها لم تكن تعني فأساً بالمعنى الحديث أو اداة مختصة لقطع الأشجار. هذا يعني أنه يستحيل معرفة معاني الكلمات حينما تنتزعها من سياقاتها الثقافية الاجتماعية المحلية أو القومية. كما يعني أيضا أنه لا توجد معانٍ ثابتة وكاملة ومطلقة للكلمة في كل زمان ومكان. لكن هناك نمط من الأشخاص غير قادر على معرفة هذه الحقائق البديهية، حيث تكتسب الكلمات لديهم معاني محددة سلفاً وثابتة، وتجدهم يطابقون بين الكلمة والشي الذي يعتقدون أنها تدل عليه، يطابون بين الدال والمدلول، بين اللفظ والواقع الذي قد منحوه في وقت سابق من تاريخهم جل احترامهم أو تقديسهم أو نفورهم، ومن ثم تجدهم اكثر هياجاً عندما يتم ذكر هذا اللفظ بقليل من الاحترام أو النقد، أو الحديث عن اللفظ الذي كان يثير ردود فعل ساخطة عندهم، بشي من الاحترام.
فإذا كان السيد “س” اشتراكياً، والسيد”ص” اسلامياً سياسياً، فان نقد الاشتراكية يثير غضب الأول ويسر الثاني والعكس صحيح. إن مثل هذه الإشكال من التجارب الثابتة مع الكلمات هي نوع من التحيز والتعصب الأعمى، ومثل هؤلاء يبدو وكان لديهم في أدمغتهم نقطة مكشوفة بحيث ـنها لو مست بكلمات لا يرغبون بها يصير بها نوع من التماس الكهربائي الذي يحترق معها المصباح الكهربائي” المين سوتش”كله.
ويعتقد الفريد” كورز يبسكي” مؤسس علم تطور المعنى العام”: أن مثل هذا النوع من الاستجابات المكهربة: هي استجابة التسوية في الهوية، ونحن نسمي هذا”ثقافة البعد الواحد” حيث يطابق أولئك الأشخاص بين جميع أنواع الحدوث لكلمة ما أو رمز ما ويرون فيها شيئاً واحداً لا يتغير، فهم يساون بين مختلف الحالات التي تقع تحت ذلك الاسم ذاته على أنها شي واحد.غير إن هذه الثقافة أحادية البعد، هي سمة فسيولوجية في الجهاز العصبي للإنسان المتوحش، الذي ظل لزمن طويل يعتقد بالقوة السحرية للكلمة، فالصيغة السحرية لم تكن تفعل فعلها إلا من خلال الاعتقاد الراسخ بقوة الكلمات على الخلق والفعل والحماية.
وما تزال الكثير من عاداتنا الثقافية أسيرة هذا المنطق من التفاعل والتقابل بين الكلمات والأشياء، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى الكثير من الظواهر، غير المتشابة على أنها واحدة، فمثلاً عادة مايجمع الناس في أحاديثهم بين أشياء يصعب الجمع بينها، ولو أمعنا النظر في حقيقة هذه الألفاظ التي نجعل منها أحكاماً عامة، لوجدنا أنها تجافي العقل والحقيقة، فليس جميع طالبات كلية الآداب متماثلات، وليس جميع من يحفظون القرآن متساويين. وحينما ندقق في صحة أحكامنا نجد أن فلانا(أ) هو غير فلان (ب) وأن المثقف (1) هو غير المثقف (2) وأن العدني (1) هو غير العدني(2) ويختلف عنه عدني(3)..الخ. والاشتراكي(1) هو غير الاشتراكي .. الخ، وهذه المعادلة تعني أنه بدلاًمن التفكير الساذج والبسيط الذي يعتمد على توصيفات جاهزة عن الناس ومعانيهم وعلاقاتهم وثقافنهم فإن علينا التفكير في الاختلافات القائمة، والتمايزات الواضحة بين شخص وآخر. بين كل بقرة وأخرى، أما في الليل فجميع البقر سوداء”. وليس كل بيضاء شحمة ولا كل حمراء جمرة . ولا كل ما يلمع ذهباً… الخ.
وفي دراسة حديثة أكدت الباحثة الأسترالية ليرا بوروديتسكي، إن للغات التي نتحدث بها تأثيرا في رؤيتنا للعَالم، إذ أشارت إلى سبب عدم قدرة الناس على فهم عالمهم وفهم بعضهم الكامن في لغاتهم، واللغات يمكنها أن تطلق آفاق التفكير الإيجابي الفعال أو تكبله بقيودها وأطرها السابقة التكوين والمكتملة الدلالات والمعاني الميتة إذ كتب: “إن السمة المميزة للذكاء البشري هي قدرته على التكيف، وقدرته على الاختراع وعلى إعادة ترتيب تصوراته للعالم بما يتناسب والأهداف وكذا البيئات المتغيرة”.
وما التباين الكبير في اللغات التي انتشرت في أرجاء هذا الكون إلا نتيجة لهذه المرونة. حيث توفر كل لغة أدواتها المعرفية الخاصة بها محتضنة كل ما طورته حضارتها عبر آلاف السنين من معرفة ورؤية للعالم. حيث تمتلك كل واحدة منها أسلوب إدراك وتصنيفاً وتفسيراً لهذه الرؤية، بل دليلاً قيماً طوره وصقله أجدادنا. والأبحاث التي تجرى حول تأثير اللغات التي نتحدث بها في أسلوب تفكيرنا تساعد العلماء على كشف كيف تتولد المعرفة لدينا وكيف يتشكل الواقع وكيف أصبحنا أذكياء ومتحذلقين، هذه هي البصيرة التي تساعدنا بدورها على فهم جوهر ما يجعلنا بشراً”
أشارت الدراسات إلى أن تغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس تغير أيضاً أسلوب تفكيرهم.
وختاما
نقول هل آن لنا أن نتخلص من الغريزة الحيوانية في التعامل مع الأشياء والناس، فاصابع اليد الواحدة غير متساوية. وعلينا أن نتذكر دائماً. “من أن الجبن هو الجبن في نظر الفأر، ولهذا السبب تؤدي مصيدة الفئران عملها”. إن التفكير السليم هو ذلك الذي يستطيع رؤية الاختلافات واكتشاف الخصائص المتفردة بين الأشياء، أما العادات العمياء والكسل البليد سيكتفي فقط برؤية التشابة والتماثل، على النحو الذي يرى أن جميع الصينيين متشابهين! لقد شهد العقد الماضي العديد من البراهين الخارقة ما يؤكد على أن اللغة تؤدي فعلاً دوراً سببياً في صياغة المعرفة. فقد أشارت الدراسات إلى أن تغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس تغير أيضاً أسلوب تفكيرهم. فتعليم الأفراد كلمات جديدة تتعلق بالألوان، على سبيل المثال، يغير من قدرتهم على التمييز بينها. وكذلك تعليم الأشخاص طريقة جديدة للتحدث عن الوقت يزودهم بطريقة جديدة للتفكير فيه.
لا تعليقات