حينما يتأمل كلا منّا؛ أنت وأنا وهي وهو في ذاته وذاكرته الخاصة ماذا نجد فيها؟ ركام هائل من الأحداث والمواقف والتجارب والخبرات والشخوص والامكنة والأزمنة والمعارف والمعلومات والصور والرموز والأوهام والأحلام والألم والأمال والافراح والأتراح وكل شيء مر بحياتنا تقريبا سوى ادركناه أو لم ندركه.
في الذاكرة توجد معارفنا وخبراتنا اللغوية والدينية ومعارفنا وخبراتنا التربوية والتعليمية ومعارفنا وخبراتنا العلمية والأخلاقية والجمالية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والثقافية إذ هي مخزون دائم الاتساع لكل ما نعيشه ونعرفه ونفكر فيه ونحلم به.
إنها تاريخنا ولا شيء يأتي إلى التاريخ ولا شيء يخرج منه. فكيف يمكن لكل هذا الكم الهائل من الأشياء أن يوجد ويتعايش في مكان واحد هو الدماغ وللحيونات أدمغتها كذلك. المشكلة التي تواجهنا دائما مع ذاكرتنا أن الأمور ليست مرتبة ومنظمة ومصنفة فيها كما هي السوبرماركت أو الصيدليات أو المكتبات العامة بحسب الصنف والنوع والجنس. بل هي عبارة عن هيولي سائبة ومتحركة ومتحولة أشبه بالإعصار أو الدوامة. وكذلك هو التاريخ أنه مغامرة الذات الإنسانية عبر الزمن من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
وكما هي ذاكرة الأفراد مفطورة على ثلاث قدرات؛ التذكر والوعي والخيال كذلك هو التاريخ ثلاثي الإبعاد؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وربما هنا نجد السر الذي جعل الفلاسفه يماثلون بين العقل والتاريخ ومنهم هيجل الذي قال: أن العقل يمتطي حصانا!
وقد كان العقل مفهوما مركزيا في الثقافة اليونانية، فهو عند الفيلسوف هيرقليطس «اللوغوس» أو«العقل الكوني» بمعنى النظام أو القانوني الكلي وهو عند أنا لساجوراسالنوس» «العقل الكلي» أي القانون والنظام مقابل. ” الكاوس» أو الفوضى وهو عند سقراط القاسم المشترك بين الناس أي الكلي وهو عند ارسطو«الذي ينظم كل شيء وهو العلة لجميع الاشياء » ومن الملاحظ ان اليونانيين يستخدمون كلمة (العقل) بمعنى النظام الكوني أو الله، العقل يحكم العالم ،والتعقل بهذا المعنى هو ادراك النظام الذي يحكم الكون والترتيب بين الاشياء. وقد ساد هذا التصور للعقل والنظام الطبيعي تاريخ الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر وهذا هو معنى قول فرانسيس بيكون«أن اردنا أن نعرف الطبيعة علينا الانصات إلى قوانينها». ويرى محمد عابد الجابري «أن المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة والقول بأن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها ثابتين أساسيين في بنية الفكر الغربي اليوناني والأوروبي.
وكما هي ذاكرة الأفراد مفطورة على ثلاث قدرات؛ التذكر والوعي والخيال كذلك هو التاريخ ثلاثي الإبعاد؛ الماضي والحاضر والمستقبل.
لكن ماذا عن العقل في الفكر العربي الاسلامي؟ جاء في لسان العرب العقل الحجر، النهى، ضد الحمق والعاقل هو الجامح لأمره وهومأخوذ من عقلت البعير إذ جمحت قوائمه» وأيضاً: «العاقل من يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم اعتقل لسانه إذا حس ومنع الكلام.. وسُمَّي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه. واضح هنا أن المعنى المراد من العقل هو معنى قيمي وأخلاقي وليس معرفياً أو فكرياً مفهومياً، كما أنه لا يشير إلى نظام الطبيعة وقوانين الكون، وإذا وجدنا في دلالات العقل العربي معنى للنظام والتنظيم فإنما في المجال التداولي والمتجه دوماً إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها.
ويرى توني هب في كتابه فجر العلم الحديث
لقد أدى التضييق على العقل في الحضارة العربية الإسلامية إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعة؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة، كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس.
لقد أدى التضييق على العقل في الحضارة العربية الإسلامية إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعة.
ويرى فضل الرحمن أن “اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان، لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: “أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك. ويخلص (هف) إلى القول: “لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند الإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف.
أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية ولم تكن بالحسبان.
تفاعل الناس مع هذه القصة.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة درويش