لسنوات طويلة، وصباح كل يوم تقريبًا، توليت مع زملائي مهمة اختيار المقالات التي تُعرض على شاشة قناة بلقيس اليمنية. كانت تلك مهمة صعبة حين تجد نفسك في مكانة تحديد ما هو جيد وما هو أقل جودة. وفي الأخير، نحن بشر نخضع لصوت داخلي ولأمزجتنا ومستوى وعينا وثقافتنا.
في تاريخ 18-12-2015 توقفت عند مقال ترجمته رحاب شاكر لصالح موقع الجمهورية المستقل، أعدت القراءة أكثر من مرة، شعرت كأن الكاتبة تخاطبني شخصيًا، أحسست بتحسن في ذهني، حالة صفاء وتدفق، تلك مشاعري حين أقرأ نصًا جيدًا بداية يومي.
مرت السنوات وحين وجّه لي صديقي صلاح حسن سؤالًا: ما هي أفضل المقالات التي اطلعت عليها خلال عملك؟
كانت الإجابة جاهزة، وأول ما قلته: “لا داعي للهروب”. كان ذلك المقال الذي ترجمته رحاب من اللغة الهولندية للكاتبة Désanne Van Brederode.
ثم فكرت كيف علقت فقراته في ذهني وكأني أحفظه عن ظهر قلب. لقد حفظته في ذاكرتي، ورسمت في ذهني صورة الكاتبة ولحظة الكتابة واحتفظت بها لنفسي.
لم أكن أعرف أني سأصبح لاحقًا جزءًا ممن كتبت عنهم المؤلفة، لم أكن أدرك أن ما تقرأه اليوم عن الآخرين قد تصبح أنت جزءًا منهم غدًا. لاحقًا ألفت كتابًا عن فتى مضطر لمغادرة الوطن، ولم أكن أعرف أنه ستكون قصتي أيضًا. الحياة هي ما نكتبه نحن أو ما نقرأه ونهتم به.
فور وصولي هولندا، وتحديدًا قبل عام، التقيت صديقي الكاتب حسن الخطيب. وفي أول لقاء سألته: هل تعرف Désanne Van Brederode؟
قال: كنت أراها في وقت سابق. ثم سألته عن الطريق إليها، ولم أتوقف عن البحث عنها أكثر وعن إنتاجها.
مرت الأيام، وفجأة جرفني الحنين لقراءة نصوص شكّلت لي فارقًا في حياتي، نصوص أحسست أنها كانت رسائل بُعثت لي عبر تطبيق خاص ولم تكن عامة؛ كانت لأجلي فقط. وقد كان “لا داعي للهروب” رأس القائمة مجددًا. في هذا المقال نوع من المواساة، يدٌ تمتد لتمسح عن رأسك الأفكار العالقة، لتضمد جرحًا أحدثه الزمن وأهله.
وهذا جزء من مقالها الذي حفظته: “العقائدُ سجون، هكذا كتب الفيلسوف نيتشه. ولقد كان يعرف بأن الشفقة من الفضائل السيئة، هي أشبه بالتمتع بالعذاب. الشفقة تقتل أكثر مما ينبغي، ومع ذلك يبدو أننا مدمنون عليها. الشفقة على الآخرين تعطي إحساسًا جميلًا أشبه بالثمالة: انظر إلي، كم أنا متفهم، وكم أقوم بالعمل الصالح. لا نرى الآخر، لا، بل ننظر إلى نظرتنا في المرآة، بينما نقتلُ اللاجئ بعناقنا له. الشفقةُ كسلاح.”
للكاتبة الفيلسوفة 24 مؤلفًا لم يتم ترجمة أي من رواياتها وكتبها إلى اللغة العربية، ولعلها تكون واحدًا من دوافع تعلمي للغة الهولندية بحماس أتمنى أن لا تطفئه الأيام.
لا تعليقات