1. فكر وثقافة

من صرخة الميلاد إلى شهقة الموت الدين والإنسان (2)

التدين والدين

من نافلة القولِ الإشَارة إلى الفرق بين الدين بما هو مُعطًى سماوي مقدس، وبما هو حقيقة خارجيّة محددة بمنظومة تعاليم إلهية تكتسي زيَّ المُطلق والكلّي، وبين التدين بما هو اجتهادٌ بشري وممارسة إنسانية تستبطنُ البعد النفسي والثقافي والاجتماعي المتشكل من مدخلات أخرى أيضا، ويتداخل معها الموضوعي بالذاتي، والحقيقة بالخرافة، والصحة بالخطأ، والمقدس بالمدنس.. إلخ.

قد يُهمُّك أيضا:

من صرخة الميلاد إلى شهقة الموت.. الدين والإنسان (1)

 هذه ظاهرة دينية في كل الأديان بلا استثناء، ظاهرة بعض الأحبار والرهبان وبعض الفقهاء الذين قدموا تفسيراتٍ خاصة بالدين، بناءً على مُحددِّاتٍ خاصةٍ في أفهامهم، لها خلفياتها النفسية، أو أجندات معينة رسمت لهم سلفا لها خلفياتها السياسية. ومن هنا تحول الدين من عامل بناء إلى عامل هدم، ومن عامل محبة ووفاق إلى عامل كراهية وشقاق.

الدينُ عاملُ هدم إذا ما تم احتكاره باسم جماعة ما، أو تعصبت له جماعة جاهلة، سرعان ما يتحول إلى فتيل صراع بين طرفين: كل يدعي تمثيله وأحقيته به

. وباستقراء المجتمعات المتدينة الجاهلة ندرك حجم ذلك الصراع الجنوني “أفغانستان أنموذجًا”. الدين إذن انعكاسٌ لوعي المجتمع، ففي المجتمع اليميني: المتدينُ متخلف، واليساريُّ متخلفٌ والتقدميُّ متخلف، والجميع يتعاطون مع الأفكار من منطلق الوعي الجمعي المسيطر عليهم، وبين يدينا نموذج آخر أيضا، وهو البوذية. البوذي في اليابان ملاكٌ ينحني لك احتراما وتقديرا، وفي بورما كائنٌ متوحش يقتلُ أخاه الإنسان بكل برودة، وبلا سبب..!

الداعشي ــ المتأزم نفسيًا قبل تأزمه فكريا ــ يفجر نفسه ومَن حوله، والصوفيُّ المتهامي عشقا وحبا يغسل أقدام المشردين والتائهين في الشوارع، وكلاهما مسلمان ينهلان من مصدر واحد..!!

التطرف والإرهاب ملة واحدة، وهو موجود في جميع الأديان، وكل فريق من المتطرفين يتغذى من الطرف الآخر، ويبرر تطرفه به، وهو ما يجعل القضاء على التطرف لدى جماعةٍ بعينها مستحيلا، إلا أن يكون لدى الجميع في وقت واحد. إنه يشبه الجائحة الوبائية يبتدئ كليا وينتهي كليا.

توظيف قيم الدين للتحيزات العصبوية أو المصالح الفئوية لا تنتج إلا الكراهية، وبدورها تعمل الكراهية على تدمير أهلها قبل تدمير الآخر، وهذا سلوك مرذول استَبشعتْه كل الأديان على حد سواء. يحيطك المعلم/ المربي بدائرة ما، ثم يقول لك: كن حُرا داخل الدائرة..! وهي حرية تشبه حرية العصفور داخل القفص، أو حرية القطيع داخل الحظيرة الواسعة. وما لم يتجاوز هذا العنصر تلك الدائرة المضروبة حوله سيظل أبد الآبدين يعتقد أنه فكره ومعتقده هو الأصح وحده، وأن الآخرين على الخطأ، كل الخطأ. ومن هنا رأينا كيف تتمدد الأيديولوجيات بالجهل في المجتمعات الجاهلة، وتنكمش في المجتمعات المتعلمة والمثقفة بالوعي والتعليم، وستظل كذلك حتى يتجاوز المجتمع السياجات الوهمية من حوله.

الأيديولوجيات اليسارية أو اليمينية ليست في أحد أوجهها إلا الامتداد التاريخي للأساطير والميثولوجيا، وإن شئت قل: الأساطير المُعقلنة، ذلك أنها تبيعُ الوهم لأتباعها، بعد أن عطلت فيهم ملكة النقد والتفكير، فسلم الأتباعُ عقولهم لمعلمهم/ قائدهم/ مرشدهم الذي يفكر للجميع بدلا عنهم، فهو المنزه عن الخطأ، وكلُّ ما ينطق به حق وعدل، وآمنوا بالخرافات الزائفة والأفكار الباطلة، ولا يزال شعار: “موسوليني دائما على حق” حديث التاريخ؛ حيث كانت هذه العبارة تُكتب على كل الجدران في إيطاليا أثناء حكم الفاشية الموسولينية.

إن خطأ الفنّان لا يعني خطأ الفن كما يُقال، وإنَّ توحُّشَ بعض المتدينين أو المحسوبين على الدين لا يعني الدين في شيء. هذا ما ينبغي أن نعيَه في هذا السياق. تكمنُ المشكلة حين يتم تسييس الدين وصرفه عن وجهته، لينتج في هذه الحالة فكرٌ هجين وخليط لا هو بالسياسي، ولا هو بالديني، ومن ثم تتوالى النكبات السياسية والدينية معا. وشواهد التاريخ مليئة بهذه الصور، بالتزاوج غير المشروع بين رجل الدين والسياسة، كظاهرة قديمة/ جديدة، لن تنتهي.

الحروب والدين

لقد حافظت الجماعاتُ على بقائها وكينونتها بالأديان في كل مرحلة من مراحل الاضطهاد السياسي، وشكّلَ الدينُ في حد ذاته قوة معنوية دافعة في التجلد والصبر والاحتساب أمام آلات البطش والاضطهاد التي لاقتها الجماعات المتدينة من الطغاة السياسيين، أو حتى مع بعضها بعضا، كما هو الحال مع يهود بابل الذين اضطهدهم الملك الآشوري سنحاريب ثم نبوخذ نصر في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، ونفاهم إلى بابل حتى أعادهم الملك الفارسي قورش، وهناك كتبَ اليهودُ أحرّ أشعارهم وتاريخهم، كما كتبوا تلمودهم الرسمي المعروف بالتلمود البابلي، والذي تشكلت على ضوئه الشخصيّة اليهودية إلى اليوم. ووسط ذلك التعذيب والنفي والتشرد الذي حصل لهم لم كانت صلواتهم وأدعيتهم الدينية هي الملجأ الروحي الأول الذي استمدوا منه حياة البقاء؛ علما أنهم قاوموا الاضطهاد الروماني في البداية، وظهرت فيه جماعة عنف عرفت بالمخنجرين، لاعتمادهم على الخنجر في اغتيال جنود وموظفي الدولة الرومانية؛ بل لقد قتلوا من رأوهم خونة من أبناء جلدتهم اليهود الذي اتهموهم بالتمالؤ مع السلطات الرومانية.

ذات الشأن أيضا مع المسيحية التي اضطهدتها الدولة الرومانية في بلاد الشام، ونكلت بهم، لما يقارب ثلاثة قرونٍ من الزمن، حتى انتهى هذا الحال بمرسوم ميلانو سنة 313م، فسُمح للكنيسة بممارسة طقوسها الدينية، إبّان حكم قسطنطين الأول، ولولا وصايا يسوع وتعاليمه في الصبر والتحمل مشفوعة بالأدعية اللاهوتية لما تحملت الجماعة المسيحية ما حل بها من النكال والدمار. ومثل هذا التنكيل أيضا مسيحية نجران وما عانوه على يد ذي نواس الحميري، وفيهم نزلت سورةُ الأخدود من القرآن الكريم.

وذات الشأن مع المسلمين واليهود أيضا الذين اضطهدتهم المسيحيّةُ بعد ذلك فيما عرف بفترة القرون الوسطى في الأندلس حين مارست عليهما أبشع أنواع التعذيب الذي ورثته في أدبيّاتها التاريخية عن آبائهم الذين تعرضوا للتعذيب على يد الرومان، على الرغم من فضل المسلمين على المسيحيين في تمدينهم؛ بل ونقلهم من حياة الهمجية المتوحشة التي كانوا يعيشونها آنذاك إلى المدنية الراقية. ثم ما حصل بعد ذلك من توحشٍ تجاه المسلمين العرب، فيما عرف بالحروب الصليبية التي قادها بابوات أوروبا تحت شعار الحج المسلح..! بل لقد التفتت المسيحية بعد مؤتمر نيقية إلى من تبقى على وثنيته في الإمبراطورية الرومانية وثأرت منهم للأبناء والرسل الذين أعدمتهم الإمبراطورية بالأمس.

 والحقيقة أنه ليس أسوأ من أن يتحول المظلومُ إلى ظالم، فإنه يمارسُ الوحشية المتطرفة بنفسية منحرفة متأزمة، تنعكسُ سلوكا انتقاميًا حد الجنون؛ خاصّة إذا ما كانت المعتقدات راسخة في الوجدان؛ لأن أسوأ المظالم تنشأ عن أسوأ المعتقدات كما يذكر جوستاف لوبون في كتابه “روح الثورات”. وقريبا من هذا أيضا قال به “إيريك هوفر” في كتابه “المؤمن الصادق” وما العنفُ في هذه الحالة إلا انفجارٌ جماعي تمارسه الجماعات المكبوتة تجاه غيرها، تحت غطاء الدين، برعاية سياسية في الغالب.

 ونفس الحال أيضا مع مسلمي الصين وبوذيي الهند الذين تعرضوا لوحشيات متطرفة من قبل الجماعات الدينية الكبرى هناك، إلى حد اعتبار البعض البوذيةَ عقيدةَ الدفاع عن الذات. ثم إن ما عُرف بلاهوت التحرير منتصف القرن الماضي ليس إلا أحد أوجه العلاقة بين الدين ومقاومة الفناء.

ظُلم اليهودُ كثيرًا على يد الرومان، وظُلم المسيحيون أكثر على يد اليهود، وظُلم المسلمون أضعاف ذلك من قِبل المسيحيين، ويظلم المسلمون أنفسَهم فيما بينهم البين بواسطة فرقهم ومذاهبهم. وهكذا تتوالى سلسلةُ العنف، وكلٌ يمارسُ الظلم على غيره إذا ما امتلك القوة، في متوالية تاريخية لا تنتهي. والعجيب أن الحروب البينية أشد ضراوة من غيرها لدى كل الشرائع والمذاهب، ووفقا لجوستاف لوبون: إن عدم التسامح بين أنصار المعتقدات المتقاربة يكون أشد مما بين المعتقدات المتباعدة.

لقد كانت الأديانُ المحركَ الأساس والدافع الأكبر لمعظم حروب التاريخ الكبرى، متراوحة بين الغاية في حد ذاتها أحيانا، وبين الوسيلة أحيانا أخرى، سواء الحروب الغيرية أم البينية.

ومن يستقرئ حروب الشيعة والسنة في الدين الإسلامي أو حروب الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية، أو حتى الحرب المسيحية الإسلامية أو المسيحية اليهودية أو اليهودية الإسلامية يجد أنهارًا من الدماء وتلالا من الجماجم لم تتوقف منذ مئات السنين وإلى اليوم، حتى الفرعون الأكبر نفسه حين استجاشَ قومَه ضد موسى كانت غايته دينية: (إني أخافُ أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). هذه الآلة التي تدمر وتبيد، بإمكان العقلاء أن يجعلوها آلة بناء وسلام، فنصوصها تحمل بذور الحرب، كما تحمل بذورَ السلام على حد سواء. ووفقا لهانس كينج: إنَّ المطالبةَ بنبذ العنفِ موجودةٌ في التقاليد الدينية كافة، من ناحيةٍ أخرى يظهرُ العنفُ في الأديانِ كافة.

اليوم الآخر والدين

تكمنُ أهميّةُ الدين في الإجابة عن سؤال الماهية الأخروية التي تُعتبر أحد مراحلِ حياةِ الإنسان في فلسفة وفكر أي متدين، وهو السؤال الذي عجزت عن إجابته الماديات؛ بل وعملت على توقيف حياة الإنسان بصورة نهائية عند الموت، نافية مرحلة ما بعد الموت “الحياة الأخروية”؛ فكان الدينُ إجابة عن المبتدأ والمنتهى، عن نقطتي الانطلاق والوصول، فيما هو في نظر الماديين انطلاق إلى المجهول فقط. وقد أفرد العلامة اليمني محمد بن علي الشوكاني رسالة خاصة بعنوان: المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخر. وكتابا آخر يتصل بهذه الفكرة هو اتفاق الثقات على التوحيد والمعاد والنبوات.

 هذا المعتقدُ لدى المتدينين سَاهَمَ إلى حدٍ كبيرٍ في ضبط السُّلوك الإنساني وتقويم وجهته، وتقليم أظافر الوحش الذي يسكن أعماقه، خوفًا من عاقبة هذا التوحش، ولو بعد حين. ولهذا رأينا كثيرا من معتنقي النظرية المادي ينهون حياتهم على طريقة الساموراي، وهي خاتمة مرفوضة من كل الأديان السماوية، نهاية تعتبرها الأديان عدوانا على الروح، في أسوأ عملية اعتراض على قدر السماء؛ لأن الروح من أمر الله، وإنهاء الروح بالانتحار اعتراض على أمر الله.

الدينُ ــ إذن، ومن هذا المنطلق ــ آلية من آليات البقاء والحفاظ على الذات، سواء ذات الفرد أم ذات الجماعة، وهو كذلك رافعة حضارية للبناء، وللسلام العالمي، والعيش المشترك، وفي أفقٍ ما يمثلُ إسهامًا كبيرًا لتجاوزِ المهدداتِ العالميّة التي تشقى بها البشريةُ اليوم على تقدمها التقني والحضاري. ويبقى الرهانُ على كيفية توظيفِ هذه الرافعة والاستفادة منها بالصُّـورةِ التي تجب من منطلق: “ولقد كرمنا بني آدم”.

هل يعجبك مقالات د. ثابت الأحمدي؟ تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي!
لا تعليقات
تعليقات على: من صرخة الميلاد إلى شهقة الموت الدين والإنسان (2)

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    إرفاق الصور - يتم دعم PNG، JPG، JPEG وGIF فقط.