الحضارات والدين
من يتتبع عملية نشوء الحضارات منذ بواكيرها الأولى، وفي مختلف المجتمعات يجد أنَّ كلا منها لزيمَ عقيدة أو فكرة ما، تتجلى هذه العقيدة أحيانا في شكل ديانة، وأحيانا أخرى في شكل فلسفة ما؛ ذلك أنَّ الأديانَ قرينُ الحضارات وعليها تأسست المجتمعاتُ الحضَاريّة والشُّعوب المتمدنة. وما انفكت حضارةٌ أو نهضة عن عقيدةٍ يوما ما.
يرى فيلسوفُ التاريخ والحضارات “آرنولد توينبي: أن الحضارة المسيحية بشقيها الغربي والشرقي قد تولدتا عن الحضارة الهيلينية عن طريق العقيدة المسيحية.
وحضارة الشرق الأقصى تولدت عن الحضارة الصينية عن طريق بوذية المهايانا.
والحضارة الهندية تولدت عن الحضارة السندية عن طريق العقيدة الهندوكية.
والحضارتان الإيرانية والعربية تولدتا عن الحضارة السريانية عن طريق الإسلام.
تنفخ الأديانُ في الشُّعوب تعاليمها الخاصة، متمثلة في إحياء قيمٍ جديدة تكلست سابقا، أو لم يكن له وجود أصلا، كخلق الروح الجمعية أو إحيائها، وكقيم الإيثار والتعاون والمحبة واستلهام المجد الغابر أو صناعته، فتتحول الشعوبُ بين عشية وضحاها من جماعات متكلسة متناحرة داخليا إلى مجتمعات منتظمة ذات مشروعٍ جمعي، تغذيها تعاليم روحية شبّابة تصنع بها المستحيل. وإلى هذا المعنى أشار جوستاف لوبون وهو يتكلمُ عن حماسة رجال الثورة الفرنسية وتضحياتهم فقال: كان لهم حماس لا يعدله إلا حماس ناشري دين محمد.
نعم.. تخلقُ الأديانُ الوعيَ بالذات كوحدة فردية أولية، ثم الوعي الاجتماعي كوحدة تالية لها، ثم الوعي بالأمة كإطار أوسع، ثم الوعي بالوجود كإطار مطلق، شاملٍ الوجود الدنيوي والوجود الأخروي، وذلك على نحوٍ متوازٍ بين هو فردي وما هو جماعي، ومن ثم كانت الأديان عاملا من عوامل التقدم الجمعي للمجتمعات والشعوب التي ترقت إلى وحدة الكلمة بعد كلمة التوحيد.
إنَّ إنجازَ ثلاثمئة سنة عقب دعوة النبي محمد في مختلفِ مجالات الحياة، وعلى الصعيدين المادي والروحي معًا يفوقُ إنجازَ ألف عام قبله، وألف عام بعده، ولا شك أنه إنجاز مبني على قواعد لحضارات قبله في المنطقة كانت متكلسة أو في حكم الموات، فنفخت فيها الدعوة الجديدة الروح، ونهضت كطائر الفينيق، أي تعانقَ رصيد الماضي وروح الحاضر، وتشكلت مسيرة جديدة بفكرة أجد، لترسي دعائم حضارة رقعة واسعة من الأرض. ومن هنا نستطيع القول أن عصور التقدم الديني هي نفسها عصور التقدم العلمي، وأن عصور ازدهار الروح هي نفسها عصور ازدهار العقل، وأن الميتافيزيقا قد توازت ــ على نحو نادر ــ مع المادة في معادلة نادرة بين تاريخ كل الأديان.
لقد انطلق العربُ بالرسالة المحمدية انطلاقة السهم من القوس، في زمن قياسيٍ سريع، وأسسوا حضارةً دانَ لها الشرقُ والغربُ بفعل تلك الجماعة من “المتوحشين النبلاء” كما سمّاهم البعض، والذين انطبعت فيهم الفطرةُ السماوية بيسر وسهولة، وفي سنوات قليلة على يد المؤسسِ الأول، وكانوا أهل نجدة وشهامة وروح شجاعة وثابة، فتكاملت قوةُ العقيدة كفكرة مع قوة الروح العسكرية، ومن ثم كان ذلك النجاح.
ذات الشّأن أيضًا مع الحضارة الغربية التي جمعت بين روح المسيحية وإرث النورماندية والجرمان والسكسون “المتوحشين النبلاء” أبناء البوادي والسهوب الذين بذروا جينات حضارتهم قبل مئات السنين، وها هي اليوم حضارة تحكم العالم. وقبل هذه الحضارة مرحلة ما بعد مؤتمر نيقية في العام 325م، الذي زاوَجَ بين سلطة البابا وسلطة الامبراطور، فحافظت على بقائها فترة غير قصيرةٍ من الزمنِ حتى فقدت روحها وانتهت على يد قبائل القوط الهمج؛ ذلك أن الإمبراطورية الرومانية قد فقدت روحها الكلية وعقلها الجمعي، بعد أن بلغت الذروة قبل ذلك، فأعمار الحضارات كأعمار الدول، كأعمار البشر، لها بداياتها ونشأتها وشبابها واكتمالها ثم شيخوختها حتى تؤول إلى التلاشي والسقوط؛ لتنهض من ثَم حضارة جديدة تتخلق على أنقاض هذه الحضارة، لها مقوماتها الروحية والمادية، وفي الغالب لا تجتمع حضارتان في زمن واحد، عدا ما قد يكون من الحضارة الصينية أو الهندية اللتين تنشآن دائما على الهامش مفصولتين عن حضارة الشرق أو الغرب.
الأمر لا يبتعد هنا عن قوانين الجدل الهيجلي، وخاصّة قانون: “التراكم الكمي يفضي إلى التحول النوعي”، أو ما سماه ماركس الديالكتيك، غير أن ماركس ربط نشوء الحضارة واكتمالها باكتمال الشروط المادية فقط، تاركا الشروط الروحية إلى جانبها التي تتكامل معها. فالنهضة، ومن ثم الحضارة روحٌ جمعيّة تحركها الفكرة ويسير بها الهدف، لا مجرد غرائز فردية مبنية على قيم المادة فقط. فمثلا بلال بن أبي رباح هو ذاته بشحمه ولحمه وعذاباته وآلامه وغرائزه قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك العبد الخانع المستسلم الصابر، والذي يفتقد للفكرة، وحين وجدت الفكرة/ الروح الجديدة/ العقيدة المستجدة/ انبرى وكأنه مفصولٌ عن شخصية الأمس، ثائرًا عنيدًا متمردًا ضد الظلم، مع أن الظلم يعيشه من سنوات طويلة؛ لكنه كان يفتقد للفكرة الدافعة التي حركت فيه روحَ التمرد والثورية. إذن الاكتمال هنا من شقين: مادي، وروحي معا. وليس ماديا فقط كما يرى ماركس.
إنّ الروحَ الجديدة ــ بما هي فكرة وعقيدة ــ جعلته يقبلُ التضحية بالنفس نهائيًا على أن يعيشَ عيشة الظلم، فلديه الاستعداد التام للموت من أجل الفكرة الجديدة، وليس لديه أدنى الاستعداد لتحمل المهانة السابقة مع ضمان سلامته وعيشته لدى سيده. آمن بالفكرة الجديدة في سنواتها الأولى كما هي، وإن لم يعرف حقيقتها بعد، ووفقا لإيرك هوفر في المؤمن الصادق: ليس من الضروري لكي تصبح العقيدةُ فاعلة أن يفهمها المرء، ولكن من الضروري أن يؤمن بها. وفي ألمانيا النازية آمن النازيون بفكرة الفوهرر التي أتى بها إيمانا أعمى بدون معرفتها، رغم أن الشعب الألماني من أذكى شعوب الأرض، إلى حد أن هيجل قد اعتقد أنهم أول الأمم التي تصل إلى الوعي بأن الإنسان بما هو إنسان حر، وأنّ الروحَ الألمانية هي روحُ العالم الجديد. وكان أحد مساعدي الفوهرر يقول: لا تبحثوا عن هتلر في عقولكم ستجدونه في قلوبكم. وبالمناسبة هنا فقد شكلت الفلسفة الهيجلية الخلفية الأيديولوجية للنازية الهتلرية. وقبلها آمن الشيوعيون البلاشفة بأفكار لينين وقدسوها، واعتبروها مفاتيح الكون. نشير إلى هذه الوقائع للتأكيد على أهمية الفكرة إلى جانب المادة في النهوض والعبور. ولذا فحين احتلت اليابانُ مقاطعةَ منشوريا الصينية، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي وأرادت الصين استعادتها من اليابانيين عللت أولا بأن ما حصل لهم من عقوبة هو بسبب تقاعس الصينيين عن تطبيق تعاليم كونفوشيوس، معلمهم الأكبر، ولا حلَّ إلا بالعودة إليها، وفعلا قاد الزعيم تشانج كاي حركة إحياء دينية وفلسفية واسعة، على ضوء تعاليم كونفوشيوس، استمرت لسنوات طويلة بعدها. ليس ذلك فحسب؛ بل حين حاول الزعيم الصيني المعاصر ماو تسي تونج فرض الشيوعية على الصين لم يستطع ذلك على الرغم من سطوته القوية التي عرف بها، ذلك لأن بعض قيم الشيوعية تتناقض مع القيم الروحية لتعاليم كونفوشيوس.
ويربط المفكر الإسلامي المعروف علي عزت بيجوفيتش بين الثورة والتدين بالقول إن المجتمع العاجز عن التدين هو أيضا عاجز عن الثورة، والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارسُ نوعًا من المشاعر الدينية الحية. إن مشاعر الأخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية في صميم جوهرها.
والثورة هنا لا يقتصر معناها على الفعل الكلاسيكي بمعناه السلبي المدمر أحيانا؛ بل الثورة الشاملة في الفكر والتصور والسلوك والتغيير الإيجابي الخلاق بعيدا عن العنف. والمفهوم الثوري بهذا المعني الإيجابي الشامل قد يتبناه الحكام أنفسهم، أي قد يبادرون هم إلى التغيير، أو بالأصح “التغيّر” قبل أن تسبقهم الجماهير إلى المطالبة بذلك.
إن حالات التفاعلات الداخلية لأي حدث أو فعل ما تتبلور في طريقها من الجزئي إلى الكلي، ومن الأصغر إلى الأكبر، ومن اللامرئي إلى المرئي، وعند هذه الحالة يكون التحول الحتمي لأي حدث، كالماء مثلا حين تجري عملية تسخينه وغليه، يبدأ بالسخونة رويدا رويدا، وما أن يصل إلى درجة 100% حتى تبدأ عملية التحول لكمية الماء داخل هذا الإناء من البرودة إلى السخونة، فالغليان، ومن الحالة السائلة إلى الحالة الغازية. وهو ما يسميه البعض أيضا بظاهرة “التغيُّر والتغيير” فالتغيُّر نتاج طبيعي لعوامل داخلية في بنية الحركة والحدث، بفعل التطور الطبيعي للمجتمع، يفرزه التراكم الكمي بصورة تلقائية وطبيعية، كعملية الولادة للحامل؛ أما التغيير فهو حالة خارجية، يتم بالتدخل في واحدة من اثنين: إما تسريع للتراكم، أو استجلاب للتحول، بصورة قسرية، تشبه عملية التوليد، لا الولادة، وخطر هذا التغيير أنه قد ينتهي بصورة خارج مساق التصور والرؤى الأولية، وخارج سياقات الفعل الطبيعي، وهذا ينطبق على بعض ثورات الربيع العربي التي حدثت بفعل “التغيير” كتدخل من خارج بنية الأنظمة نفسها لأنه لم تحصل عملية “تغير” داخلية في بنية هذه الأنظمة التي كان يجب عليها أن تجدد نفسها بنفسها من داخلها، وأن تسبق علمية التغيير الخارجية؛ لأن التغير عملية مقدور عليها من داخل بنية النظام نفسه، بالانتقال من طور إلى طور، ومن حالة إلى حالة؛ أما عملية التغيير فيصعب التحكم بها أو توجيه مسارها، وهو ما كان فعلا.
ويكاد ينطبق قانون التراكم الكمي على كل الثورات الناجحة في كل أنحاء العالم؛ حيث أفضت التراكمات الكمية خلال عقود وربما قرون من الزمن إلى خلق حالة من التحول النوعي في التغيير والبناء الجديد، وفقا لشروط المرحلة، ولشروط البناء ذاته؛ إذ تحولت أنظمة من الإقطاع إلى الاشتراكية، وتحولت أخرى من الاشتراكية إلى الرأسمالية؛ ذلك أنَّ عمليّةَ التراكمِ الكمي قد استنفدت كلَّ شروط البقاء، فأفضت إلى التحول الجديد “النوعي” بصورةٍ مفاجئة أو شبه مفاجئة على الأقل، في عملية مركبة ومتداخلة يصعب تقييمها أو حصرها في سبب واحد أو عامل وحيد؛ ذلك أن طبيعة الأحداث المركبة لها أكثر من وجه، تتعدد فيها المدخلات، كما تتعدد فيها المخرجات. إنهما عمليتان تشبهان “الموت الطبيعي” و “القتل” الأولى تسير بحالة طبيعية، فيما الثانية اعتراض وخرم أجل بحسب تعبير أدبيات الفقه الإسلامي.
من ناحية أخرى لم تكن الحركات الإرهابية أو النظريات المتطرفة إلا حالة من التحول النوعي بعد حالة طويلة للتراكم الكمي في عملية نقيضة، فأنتج النقيضُ نقيضَه بلا حسبان؛ لأن أقصى اليمين في خدمة أقصى اليسار كما قيل. وما أشبه هذا القانون بالسيول الجارفة، ينظر الناس أحيانا إلى السيل كنتيجة، لكنه ينسى أن هذا السيل العرم أصله من قطرات بسيطة، تراكمت كليا، فتحولت نوعيا، تماما كحركة المجتمعات التي تبدأ في احتجاجات فردية بسيطة متفرقة هنا وهناك، ثم ما تلبث أن تتجمع في عاصفة غاضبة، كما تجمع ذلك السيل من قطرات.
الطبيعية والدين
قانونُ الطبيعة إشارةٌ إلى منظومةِ المسلَّماتِ الإنسانيّة العقليّة، معززة بمنطقِ التجربةِ والواقع التي تتفقُ عليها البشريةُ قاطبة، وتمثلُ لها رصيدًا إنسانيًا تبني عليه تجاربَها اليومَ وغدًا.
وقانونُ الطبيعة بهذا المعنى الشّامل يمثلُ القانونَ الأهم والأول عند لوك، لأنّ الأديانَ ليست إلزامية إلا لأتباعها فقط، وليست ملزمة للآخرين، بينما قانونُ الطبيعةِ والوجود أعمُّ وأشمل، فهو مُسلّمةٌ عامة، يتفقُ عليه الجميعُ بلا استثناء، وهو مُلزمٌ لكل البشر بقوته الذاتية. إنه قانونُ العقلِ الجمعي الإنساني الذي لا يختلفُ عليه اثنان، ولا تقوم حياة البشر بدونه، ولا تستقيمُ حياتهم العامة إلا بهذا القانون.. مرتبطٌ بالإنسانِ وجودًا وعدمًا، قانون الإنسانِ بذاته، بما هو إنسانٌ ذو وعيٍ وعقل، باعتبار العقل حقيقة السّماء المودعة في هذا الإنسان؛ بل صوت الله في الإنسان. وبهذا العقل المُحكم الواعي يتحقق السلام وتسود العدالة، لتكونَ الحياةُ بين الناس هي حياةُ العقل، وتكونَ الحريةُ أيضًا مرتبطة به، فلا معنى للحرية ما لم ترتبط بالعقل، كما أنّ العقلَ مشلولُ الإرادة بلا حرية، وكلٌ منهما يكمّلُ الآخر، وكلٌ منهما مناط التكليف للإنسان، باعتبارِ الحرية مسؤولية بالمقام الأول، لها ضوابطها العقلية والأخلاقيّة، وليست تفلتا بلا قيمٍ أو كوابح، فالحريةُ ــ من منظور لوك ــ تعني في حقيقتها التحررَ من العنفِ والمعوقات، وكلاهما “العنف والمعوقات” يتوجدان حيثُ لا يوجد القانون..!
قبل “لوك” في نظرته هذه كانت الفلسفة الرواقية قد قررت ذلك في العصر الهلنستي، إبان الحكم الروماني، كمرجعية فلسفية للدولة الرومانية، تتجاوز المرجعيات القُطرية التي تحكمها الإمبراطورية الرومانية. ولا شك أن الدعوة قد لاقت تشجيعا كبيرا من قبل الدولة التي تبسط نفوذها على جزء كبير من المعمورة، إذ تتضمنُ هذه الفلسفة الدعوة إلى الروح الجمعيّة والمشترك الإنساني وتحكيم قيم العقل والخضوع لقانون الإمبراطورية، وإن خلت من الدعوة إلى الروح الدينيّة.
إذن الحريةُ لزيمُ القانون تمامًا وقرينُه الطبيعي، وعلى هذا المفهومِ ركز سارتر، الفيلسوف الوجودي المعاصر في “وجوديته” التي اتخذت من الإنسان موضوعًا لها، بناءً على هذه القيمةِ الإنسانيّة الكبيرة؛ لأنّ القانونَ الطبيعي يفرضُ على الشخص واجباتِ الحياة التي يعيشُها بكل مسؤولية، كما يقضي له بحقوقه المتوازية مع هذا الواجب، وأساسُ كل هذا هو المعرفة التي تقتضي الالتزامَ بالقانون. ومن ناحية أخرى فإن الفلسفة الوجودية المعاصرة تمثل التفكير بصوتٍ عالٍ عن معنى الحياة الإنسانية وكينونتها؛ لأن اكتشاف أو إدراك معنى الحياة يفضي إلى مزيد من الإبداع والتعاطي بإيجابية مع مستجداتها الدائمة.
ويربطُ “لوك” بين قوانين الطبيعة والضمير الإنساني الذي يعتبرُ المرجعيةَ الأصل لكل سلوكٍ أو تصرفٍ بشري؛ بل إنه القانون الحقيقي والمرجعية الوحيدة في حال غياب قوانين الدولة.
وإلى جانب “لوك” ممن تبنوا هذا المذهب المجدد الديني الهندي أحمد خان الذي ربط الحقيقة الدينية بالعقل الطبيعي، والحقيقة الدينية في نطره هنا هي القرآن الكريم فقط، أما ما أسماه الشريعة، أي تنظيرات الفقهاء فلا علاقة لها بالحقيقة القرآنية، وهي مفصولة عن العقل الطبيعي. وتبنى نظريته هذه بعض تلاميذه الذين أطلق عليهم بعد ذلك “النيتشريين”، نسبة إلى Natural. “الطبيعة”. وقد انتقد هذه النظرية المفكر الإسلامي الدكتور محمد البهي، واعتبر نظرية خان من قبيل التماهي والافتتان بالطبيعيات الغربية المادية، وهو افتتان يؤدي إلى نكران القيم الروحية التي تكتنز بها روح الشرق، فيما مذاهب الغرب منها خلاء.. إلخ.
وفي هذه الجزئية تحديدا ــ رؤية كل من الشرق والغرب ــ خصص الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود كتابه “الشرق الفنان” الذي توقف فيه مسهبًا القول في القيم الشرقية والقيم الغربية، مُشيرًا في أقربِ تصويرٍ لذلك بالقول: وإني لأزعمُ أن نظرةَ الشرق إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة الغرب إلى الوجود نظرةَ العالِم، حتى لتستطيع أن تعدَّ الشرق معرضًا كبيرًا من معارضِ الفن، وأن تعدَّ الغربَ معملا كبيرًا من معاملِ العلم.
والواقعُ أنه لا تضاد بين كلا المصدرين “الكتب المقدسة وقانون الطبيعة” فكلاهما في محصلتهما النهائيّة من إرادةِ السّماء التي تجري على الخليقة، وتعبير عن إرادة الخالق. وقد كان جون كالفن ــ وهو المصلح اللاهوتي البروتستانتي ــ يرى أن يد الله فاعلة في كل شؤون الطبيعة، يتصرف فيها بحكمة، وما الظواهر الطبيعية إلا أحد اثنين: إما رحمة للخلق أو نقمة لهم، وفي الحالتين فكل ما يحدث فيها اختبار للخلق، والعناية الإلهية في الطبيعة داخلة في كل صغيرة وكبيرة، حتى في شعر رؤوسنا حد تعبيره، متبنيا النظرية الجبرية بتفاصيلها، مفيضًا الشروحَ في قصة أيوب ومقتل يسوع الذي جرى بعلم الله المسبق.. إلخ
لا تعليقات